كانت قبيل العصر مركبة تجري بمن فيها من السّفر
ما بين منخفض و مرتفع عال ، و بين السّهل و الوعر
و تخطّ بالعجلات سائرة في الأرض إسطارا و لا تدري
كتبت بلا حبر و عزّ على الأقلام حرف دون ما حبر
سيّارة في الأرض ما قتئت كالطّير من وكر إلى وكر
تأبى و تأنف أن يلمّ بها تعب ، و أن تشكو سوى الزّجر
حملت من الركاب كلّ فتى حسن الرّواء و كلّ ذي قدر
يتحدّثون فذاك عن أمل آن ، و ذا عن سالف العمر
يتحدّثون و تلك سائرة بالقوم لا تلوي على أمر
فكأنّما ضربت لها أجلا أن تلتقي و الشمس في خدر
حتى إذا صارت بداحية ممدودة أطرافها صفر
سقطت من العجلات واحدة فتحطّمت إربا على الصّخر
فتشاءم الركّاب و اضطربوا مما ألمّ بهم من الضّر
و تفرّقوا بعد انتظامهم بددا و كم نظم إلى نثر
و الشّمس قد سالت أشعّتها تكسو أديم الأرض بالتّبر
و الأفق محمرّ كأنّ به حنقا على الأيّام و الدّهر
قد كان بين الجمع ناهدة الثديين ذات ملاحة تغري
تبكي بكاء القانطين و ما أسخى دموع الغادة البكر
و قفت و شمس الأفق غاربة تذري على كالورد ، كالقطر
شمسان لولا أنّ بينهما صلة لما بكتا من الهجر
و تدير عينيها على جزع كالظّبي ملتفتا من الذّعر
و إذا فتى كالفجر طلعته بل ربما أربى على الفجر
وافى إليها قائلا عجبا ممّ البكاء شقيقة البدر ؟
قالت أخاف اللّيل يدهمني ما أوحش اظلماء في القفر !
و أشدّ ما أخشاه سفك دمي بيد الأثيم اللّصّ ذي الغدر
" هنري " اللّعين و ما الفتى هنري إلاّ لبن أمّ الموت لو تدري
رصد السبيل فما تمرّ به قدم و لا النسمات إذ تسري
وا شقوتي إنّ الطريق إلى سكني على مستحسن النكر
إنّي لأعلم إنّما قدمي تسعى حثيثا بي " القبر
قال الفتى هيهات خوفك لن يجديك شيئا ربّة الطهر
فتشجهي و عليّ فاتّكلي فأنا الذي يحميك من هنري
قالت أخاف من الخؤون على هذا الشباب الناعم النّضر
فأجابها لا تجزعي و ثقي أنّي على ثقة من النّصر
عادت كأن لم يعرها خلل تخد القفار سفينة البرّ
و اللّيل معتكر يجيش كما جاشت هموم النّفس في الصدر
فكأنّه الآمال واسعة و البحر في مدّ و في جزر
و كأنّ أنجمه و قد سقطت دمع الدّلال و ناصع الدّر
و البدر أسفر رغم شامخة قد حاولت تطويه كالسّر
ألقى أشعّته فكان لها لون اللّجين و لؤلؤ الثّغر
فكأنّه الحسناء طالعة من خدرها أو دمية القصر
و كأنّما جنح الظّلام جنى ذنبا فجاء البدر كالغدر
و ضحت مسالك للمطيّة قد كانت شبيه غوامض البحر
فغدت تحاكي السّهم منطلقا في جريها و الطيف إذ يسري
و القوم في لهو و في طرب يتناشدون أطايب الشّعر
حتى إذا صارت بمنعرج و قفت كمنتبه من السّكر
فترجّلت " ليزا " و صاحبها و مشت و أعقبها على الأثر
و استأنفت تلك المطيّة ما قد كان من كرّ و من فر
مشت المليحة و هي مطرقة ما ثمّ من تيه و لا كبر
أنّى تتيه و قد أناخ بها همّ و بعض الهمّ كالوقر
لم تحتسي خمرا و تحسبها ممّا بها نشوى من الخمر
في غابة تحكي ذوائبها في لونها و اللّف و النّشر
ضاقت ذوائبها فما انفجرت إلاّ لسير الذّئب و النمر
كاللّيلة الليلاء ساجية و لربّ ليل ساطع غرّ
قد حاول القمر المنير بها ما حاول الإيمان في الكفر
تحنو على ظبي و قسورة أرأيتم سرين في صدر ؟
صقر وورقاء ، و من عجب أن تحتمي الورقاء بالصّقر
هذا و أعجب أنّها سلمت منه على ما فيه من غدر
ظلّت تسير و ظلّ يتبعها ما نمّ من إثم و لا وزر
طال الطريق و طال سيرها لكنّ عمر اللّيل في قصر
حتّى إذا سفر الصّباح و قد رفع الظّلام و كان كالسّتر
و الغاب أوشك أن يبوح بها و به ، بلا حذر ، إلى النّهر
نظرت إليه بمقلة طفحت سحرا ووجه فاض بالبشر
قالت له لم يبق من خطر جمّ نحاذره و لا نذر
أنظر فإنّ الصّبح أوشك أن يمحو ضياء الأنجم الزّهر
و أراه دبّ إلى الظّلام فهل هذا دبيب الشّيب في الشّعر
و أسمع ، فأصوات الطيور علت بين النّقا و الضال و السّدر ؟
قال الفتى أو كنت في خطر ؟ قالت له عجبا ألم تدر ؟
فأجابها ما كان في خطر من كان صاحبه الفتى هنري
فتقهقرت فزعا فقال لها لا تهلعي واصغي إلى حرّ
ما كنت بالشّرير قطّ و لا الرّجل الذي يرتاح للشّرّ
لكنّني دهر يجوز على دهر يجوز على بني الدّهر
بل إنّني خطر على فئة منها على خطر ذوي الضّر
قتلوا أبي ظلما فقتلهم عدل و حسبي العدل أن يجري
لا سلم ما بيني و بينهم لا سلم بين الهرّ و الفأر
سيرون في الموت منتقما لا شافع في الأخذ بالثّأر
تالله ما أنساك يا أبتي أبدا و لا أغضي على وتر
قالت لقد هيّجت لي شجنا فإليك ما قد كان أمري
بعث المليك إلى أبي فمضى و أخي معا توّا إلى القصر
فإذا أبي في القبر مرتهن و إذا أخي في ربقة الأسر
يا ساعديّ بترتما ويد الدهر الخؤون أحق بالبتر
نابي و ظفري بتّ بعدكما وحدي بلا ناب و لا ظفر
و يلاه من جور الزّمان بنا و الويل منه لكلّ مغترّ
و كأنّنا و الموت يرتع في أرواحنا مرعى و مستمري
لما انتهت و إذا به دهش حيران كالمأخوذ بالسّحر
شاء الكلام فناله خرس كلّ البلاغة تحت ذا الحصر
و كذلك الغيداء أذهلها ميل إلى هذا الفتى الغرّ
قالت أخي و الله و اقتربت
و إذا به ألقى عباءته برح الخفاء بها عن الجهر
صاحت أخي فيكتور وا طربي روحي ، شقيقي ، مهجتي ، ذخري
و تعانقا ، فبكى فرحا إنّ البخار نتيجة الحرّ
و تساقطت في الخدّ أدمعها كالقطر فوق نواضر الزّهر
...
قل للألي يشكون دهرهم لا بدّ من حلو و من مرّ
صبرا إذا جلل أصابكم فالعسر آخره إلى اليسر